يتيح لنا الإنترنت تعلم الكثير مما كان يتستر عليه أصحاب الصنائع قبل ثورة المعلوماتية التي نرفل في كنفها هذه الأيام. ولقد راودتني أمنية تعلم الخط العربي على يد خطاط مرات عديدة قبل عصر اليوتيوب. أما اليوم فأستطيع متابعة عدد لا يحصى من دروس تعلم الخط وبكافة أشكاله من نسخ وثلث ورقعة وديواني ونستعليق وغير ذلك وحسب وقتي وسرعة تطور قدراتي في الخط دون ضغط من أحد أو نفاذ صبر المعلم بي وذلك كله من خلال الإنترنت وحده. وكل ما بقى لي للولوج في دروس الخط واستعمال العدد الكبير من الأقلام والأحبار والأدوات الأخرى التي ما أنفك أشتريها وأدخرها لهذا المشروع العظيم سوى إيجاد الوقت الذي أخصصه للخط من بين الأمور الكثيرة الأخرى التي أريد أن أتعلمها.
مثال من الإنترنت لدرس لتعليم الخط. لاحظ طريقة إستخدام القلم حيث سيكون هذا موضوعنا في هذه المقالة
ولقد شاهدت بعضاً من تسجيلات دروس الخط على اليوتيوب. وكانت المفاجأة الكبيرة هو أساليب الخطاطين المختلفة في رسم الحروف العربية بهذا الشكل الجميل. والمفاجأة الأكبر كانت في الحقيقة من جانب البطء الشديد الذي ينفذ فيه الخطاط العربي عمله. فإن الديناميكية النشيطة المتمثلة بضربات خطوط الحروف العربية جعلتني أعتقد بأنها كانت ترسم بضربات سريعة وجزلة.
أما المفاجأة الثانية والتي لا تقل في زخمها عن الأولى جاءت بسبب طريقة إستخدام سن القلم الإنسي والوحشي – كما يسمونه – في رسم نهايات بعض الحروف وأجزائه كما هو الحال في إتمام الرأس المدبب أسفل شظية الألف أو ذيول الراء (كما فعل صاحب التسجيل في أعلاه). وقد كنت أظن من قبل ذلك أن الحرف كله يتم بضربة كاملة تستثمر خاصية سن القلم العريض في عمل ضربات الخط الجميلة.
وأريد أن أضيف الى ما سبق تكتم الخطاطين على سر فرك القلم في بعض المواضع لضبط زاوية السن أثناء سحب القلم. فباستثناء بعض كراريس خط النستعليق وكراسة خط النسخ لمحمد إمزيل – جزاه الله خيراً – لا تجد الكثير ممن يرغب في أن يشاركك هذا السر الخطاطي الذي يميز الخطاط الماهر عن غيره.
![imzilpenangle]()
مثال من كراسة “أسرار الرسم في خط النسخ” لمحمد إمزيل وهو يوضح كيف يتم فرك القلم في اليد أثناء عمل ضربة الخط لتغيير سمكه أو وزنه. ويمكن تحميل الكراس من الرابط الذي قام بتوفيره محمود طرادة.
وخلاصة ما أريد أن أصل إليه مما سبق هو أن من شروط ما هو مطلوب في إجادة الخط العربي هو ضبط طريقة ضربة القلم من ثلاث وجوه هي: (1) القدرة على بناء أجسام الحروف باستخدام سن القلم العريض، وهذا هو غالب ما تقوم به يد الخطاط أثناء العمل. (2) القدرة على تعديل زاوية سن القلم بفرك القلم ليتحقق الوزن الصحيح لمقطع الخط بحسب الموضع. (3) القدرة على إستخدام السن الإنسي والوحشي في رسم نهايات بعض الحروف وتحسين أشكال الحروف في مواضع معينة.
تطبيق خطاطي جديد
ولأسباب سنكشف عنها لاحقاً أقوم ببحث لإمكانية التمثيل الكمي لضربات الخط العربي وأحاول فيها تغطية الجوانب التي سردتها في الفقرة السابقة. ولأجل ذلك أحاول تطوير تطبيق على الإنترنيت لتجربة فكرتي في هذا المجال. والتطبيق يستثمر مبدأ منحنيات الـ Bezier لتحقيق الوجه الأول الذي ذكرته في أعلاه. وإضافتي المتواضعة هي تركيب معلومات كمية في عقد المنحنى لتمثيل زاوية القلم حيت يقوم التطبيق باحتساب تدرج زاوية القلم بين العقدتين اللتين تتضمنان المعلومات عن زاوية القلم. وهذا يلبي الوجه الثاني. أما الوجه ألاخير فتحقيقه بسيط بإذن الله من حيث إعطاء المستخدم إمكانية رسم الأشكال المغلقة أيضاً لتمثيل ما يمكن عمله بسن قلم الخط الإنسي والوحشي.
![khattatapp]()
صورة لواجهة إستخدام التطبيق الجديد الذي أقوم بتطويره والذي يمكن من خلاله التمثيل الكمّي لضربات القلم في الخط العربي. لاحظوا الدائرة الزرقاء في أسفل يمين نموذج الخط. فهذه هي الأداة التي يمكن إضافة معلومات موضعية في النقطة المحددة عن عرض وزاوية سن القلم.
المبحث النظري
وقد لا أمتلك منهجية مسبقة التخطيط في مغامراتي البرمجية التي أعرضهاا على هذه المدونة. ومنطلقي في العموم هو محاولة تحقيق فكرة معينة في بالي لأجل غرض معين. وفي أغلب الحالات يكشف لي العمل على مشروع معين إمكانيات جديدة وهي في النهاية تمارين لتطوير قدراتي المعرفية في التصميم والبرمجة وفي نواحي أخرى.
وحينما بلغت نتائج المغامرة الأخيرة درجة من النضوج خطر لي أن أتحقق من صحة ما أقوم به بالمقارنة مع منهجية علمية محددة. وتذكرت أن المصمم الطباعي الهولندي جيريت نوردزي (Gerrit Noordzij) قد ألف كتاباً حول ضربة القلم. وبعد بحث قليل على ألإنترنت إستطعت الحصول على نسخة رقمية من الدراسة واحتفظت بها على حاسبتي اللوحية الصغيرة حيث قرأتها سريعاً بين الأوقات كلما تسنى لي. وقد راق لي الكتاب من جوانب معينة أحب أن أشارك قراء مدونتي بها. أما مقدار ما ساعدني الكتاب في تطوير التطبيق فلربما أقول: لا أدري. إلا أن الكتاب طمأنني بعض الشئ حيث وجدت أنه لا حرج من الطرح الجنوني للأفكار كما فعل السيد جيريت في كتابه.
![bookcover]()
هذا هو غلاف كتاب جيريت نوردزي. ويبدو أن محور نظريته تدور حول التباين في وزن الخط وكيف أدى ذلك الى تكوين أشكال الحروف الكتابية وبالتالي الطباعية. ويعرض المؤلف وصاحب النظرية كتابه بحماس حيث ينفجر غاضباً في الصفحة 77 حينما يبدي إستياءه حول من يبدو أنه ينكر أهمية التباين في الخط وكما يقول في الأقتباس في أدناه.
“When even contrast is renounced as superfluous ornament, writing is altogether without orientation. Now the barbarians can have their say with their plans to improve the alphabet so it will be easier for children, computers and other illiterates. Whatever they say is completely true in advance because the criterion is annihilated: a line can be drawn in any direction through a point, just as an echo chamber confirms any piece of nonsense.”
وقد راق لي الكتاب من جوانب عديدة. فالباحث يقوم بعرض فكرته بتسلسل منطقي من فصل الى الفصل الذي يليه. وهو يستخدم الرسومات البسيطة ونماذج من الخط لنصوص يقتبسها من الإنجيل الكالفيني وباللغة اللاتينية والتي قام برسمها وخطها بنفسه. واللطيف الذي أعجني أيضاً هو أنه يذكر في نهاية الكتاب الأدوات التي قام باستعمالها في عمل الرسومات والخطوط التوضيحية. ولربما كان ربط الباحث لأنواع ضربة القلم بالتيار الفني والثقافي للعصور المتعاقبة التي تطور بها الخط اللاتيني هو أكثر نواحي البحث رقيّاً في نظري.
ولنتعرف على بعض أفكار الباحث حول ضربة الخط من خلال الرسوم التوضيحية التي ذكرتها:
![anatomyofstroke]()
في بداية إستعراض أفكاره يوضح الباحث أن ضربة الخط في الأساس هي صورة لطبعة سن القلم على سطح الكتابة وما ينتج من سحب سن القلم عبر السطح. وتوضح الصورة مثالاً لما يحدثه قلم بسن مدورة وما ينتج من سحب هذا السن. ويقدم الباحث إصطلاحات كثيرة وبشكل سريع دون شرح مفصل عن مصطلحاته. والأهم من بين المصطلحات هو ما يشير الى عرض الخط الناتج بموازة مسار حركة سن القلم والذي يسميه (counterpoint) والمبين بالخط العمودي المائل والمؤشر عند طرفية بالمثلثات الصغيرة.
![nibdimensions]()
ولكن الذي يهم الباحث (ويهمنا أيضاً) هو عرض سن القلم. وبالتالي فإنه يركز إهتمامه على هذه الناحية من سن القلم ويعتبر ثخن سن القلم (المؤشر بحرف b في الرسم) غير ذي قيمة. وهذا مناسب بالنسبة لنا حيث أن الخط العربي يأخذ طابعه من خاصية عرض القلم أيضاً.
![contrastbypath]()
وباستخدام قل الخط الذي يكون عرض رأس القلم هو الفاعل الأساس في رسم الخط يمكن عمل الخطوط التي يتباين فيها ثخن الخط بحسب التغيير الذي يطرأ على إتجاه مسار القلم عند رسم الخط.. وكلما تعامد المسار مع زاوية القلم كان الخط المرسوم أكثر ثخناً. وعلى العكس حينما يكون مسار القلم بموازاة زاوية رأس القلم يستدق فيها الخط المرسوم. وحسب نظرية الباحث تمثل هذه الظاهرة الطريقة الأولى في إستحداث التباين في ثخن الخط. وهي بالمناسبة الطريقة الأساس في إعطاء الخط العربي شكله (وإن كان هذا خارج إهتمام وذكر الباحث بالمرة).
![contrastbyangle]()
ثم يذكر الباحث الطريقة الثانية لعمل التباين في الخط وهو تغير زاوية رأس القلم عبر مسار الخط. وهو ما ذكرناه في معرض كلامنا عن أسرار الخط التي يغفل (أو يبخل) أساتذة الخط في ذكرها باستثناء الإستاذ محمد إمزيل. والتباين الحاصل من هذه الطريقة ينتج من التخصر في ثخن الخط بفرك القلم عند سحبه والذي عبر عنه الباحث بهذا الرسم التوضيحي.
![contrastbypressure]()
وأخيراً الطريقة الثالثة في الحصول على التباين هو بزيادة ضغط القلم على سطح الرسم. وهذا لا يحدث أثراً ملحوضاً مع استخدام الأقلام ذات السن العريض وهو ما يحدث في الحقيقة مع الأقلام المعدنية ذات الرأس المرن المشقوق (كرؤوس أقلام الحبر التقليدية). ولربما لا تكون هذه الطريقة مهمة كثيراً بالنسبة للخط العربي، إلا أن الخطاطين يستخدمون تغيير الضغط مع إمالة القلم للحصول على الخطوط الدقيقة في بعض الضربات السريعة وخاصة في خط النستعليق. ولو راجعت درس تعليم الخط في أول هذه التدوينة ستلاحظ كيف يقوم الخطاط بذلك خاصة في رسم حركات التشكيل.
![modelforexpansion]()
هذا رسم بياني يوضح مبدأ علاقة ضغط القلم مع ثخن الخط المرسوم. فإنه مع زيادة الضغط (p) تزداد قيمة الـ(counterpoint) حسب المعادلة c=p.tan(phi) حيث يمثل (phi) معامل مرونة رأس القلم. وقد أعجبتني الفكرة بالرغم من بساطتها بل لربما بديهيتها حيث تمثل مرونة رأس القلم بأسلوب كمّي كما أحاول أنا في التطبيق الذي أقوم بتطويره. ولربما هناك عدم تجانس في أفكار الباحث، حيث أن الـ(counterpoint) هنا يمثل نصف ثخن الخط في الوقت الذي أشار الباحث في غير هذا الموضع الى أن الـ(counterpoint) يمثل كل ثخن الخط. وعلى هذا الأساس فإن المعادلة الصحيحة تكون: c = 2p * tan(phi)
![interruptedconstruction]()
ويذكر الباحث فكرة لم تكن قد مرّت علي سابقاً وهي تتعلق بنوعي أسلوب توقيع ضربات القلم عند الكتابة بما يترك أثره على شكل الحرف. النوع الأول هو الضربات المتقطعة. وبالرجوع الى الرسم ترى أنه من أجل رسم شكل الحرف الذي في المثال عليك عمل الضربة العمودية الأولى التي على اليسار ثم رفع القلم (وبغض النظر عن مسألة شحن الرأس بالمداد) تقوم بالضربة الثانية التي على اليمين مبتدئاً من الأعلى ونحو الأسفل أيضاً.
![returningconstruction]()
أما النوع الثاني من الضربات فيسمها الضربة المرتدة. وترى من المثال أن الخطاط لم يرفع القلم بعد رسم الضربة الأولى على اليسار بل رجع بالقلم على مسار الضربة الأولى بالإتجاه المعاكس ليكون الجزء الثاني من الحرف. وقد قام الباحث بتوضيح كيف أن الفرق بين الأسلوبين في رسم الحروف كان يتبع فترات تاريخية محددة في تاريخ الكتابة بالحرف اللاتيني. فالطريقة الأولى هي الطريقة القديمة أو الرومانية في حين أن الطريقة الثانية تزامنت مع ما يسمى بالـ(mannersim) وحسب قول الباحث.
![constructioncomparison]()
ثم يقدم الباحث مقارنة بين تأثير الطريقتين على شكل الحرف وبالرغم من بساطة الفرق إلا أنه في النهاية يعطي تأثيرين فنيين متباينين.
![speedeffectonreturningconstruction]()
كما يوضح الباحث تأثير سرعة الكتابة على شكل هيكل الحرف في الضربة المرتدة حينما تبتعد الضربة المرتدة عن الضربة الأولى والتي يعطي تأثير جريان الكتابة بشكل أسرع.
![latinligature]()
ثم يأتي الباحث بفكرة مهمة أخرى وبشكل مفاجئ (على الأقل بالنسبة لي). حيث يعبر الباحث عن إستيائه من الأساليب التعليمية التي تركز على الشكل دون علاقته بالفراغ الذي من حوله. وحيث أن هذه النقطة هي من مبادئ التصميم ظننت أن هذا جل ما عنده من القول هنا. إلا أنه فجأة يشير الى أن هذا الفراغ مهم حيث أنه في النهاية أدى الى إكتشاف الثقافة الغربية الى طريقة تمثيل الكلمة بمفردها بزيادة الفراغ بين الحروف عند حدود الكلمة وكان ذلك على يد الكنيسة الأيرلندية في القرن الثامن الميلادي. وقد ذكر الباحث في معرض حديثه عن حدود الكلمة أن الحروف المرتبطة والتي كانت الحالة الثابتة في الكتابة العربية حتى قبل عمل الأيرلنديين هي الأخرى مما ساعد في “إختراع” طريقة تمثيل الكلمة المفردة. وهذا يدل على قلة دراية الباحث بالكتابة العربية حيث أنها بالرغم من خاصة الإتصال التي تناسب خط اليد إلا أن العربية أيضاً لم تكتب بتمييز الكلمات الواحدة عن الأخرى تماماً كما كان يفعل في كتابات الثقافات الأخرى.
![scriptiocontinua]()
ويبني الباحث رأيه في تطور الكتابة (بعد أن يذكر أنه لا يؤمن بشئ إسمه تاريخ الكتابة) حيث يقول أن الكتابة مرت بثلاث منعطفات مهمة. (1) إختراع الحروف ويعزيه الى الساميين، (2) إختراع طريقة تمثيل الكلمة كما ذكرنا في الشكل السابق، (3) الطباعة. ولربما يشير أسلوب الباحث الى إستياؤه من طريقة الكتابة القديمة والتي لم يكن فيها فواصل بين الكلمات كما في الصورة. ويسمى هذا النوع من الكتابة عندهم (scriptio continua) والتي كانت تشمل الكتابة العربية أيضاً كما نوهنا عنه في معرض بحثنا في الخط الحجازي.
![twodimensionalcontrastchange]()
وقبل أن يختتم الباحث موضوعه عن أهمية التباين في ثخن الخط لتكوين الأنماط الخطاطية يستخدم رسماً بيانياً آخر يوضح فيه التدرج في ثخن ضربة القلم في حالتين. الحالة الأولى حينما يتدرج التباين في كل من جزيئه المستدق والغليظ بالزيادة كما يوضح الرسم بالإنتقال عبر الشكل المجسم من الأعلى نحو الأسفل.
![onedimensionalcontrastchange]()
وبخلاف الحالة الأولى يمكن لأحد طرفي التباين أن يتدرج كما يوضح هذا الشكل حيث يزيد الجزء المستدق من التباين في ثخنه بينما يبقى الجزء الغليظ على وزنه عبر عملية التغيير.
![stroketheory]()
وبهذا يصل الى إستنتاجه النهائي حول طيف الأشكال الخطاطية التي يمكن الحصول عليها بتغيير طرفي التباين وكما يحاول توضيحه في هذا الشكل. ويبدو أن هذا هو المهم في كل بحثه حيث أن هذا الطيف هو الذي وقع عليه إختيار الباحث ليكون عنوان غلاف الكتاب الذي قام بكتابته عام 1985.
وقد استمتعت بطريقة الباحث في عرض أفكاره واستفدت من إستنتاجاته العامة. وأود أن أقوم بتطبيق ما ذكره عن ضربتي القلم المتقطعة والمرتدة وعلاقتها بالخط العربي عبر تطوره الزمني. هذا إن لم يسبقنى أحد منكم الى ذلك.
والحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى. فهو أهل الثناء والمجد وهذا أحق ما قاله العبد وكلنا لله عبد.